يعتبر نيكولاي فاسيليفتش غوغول أب الواقعية الروسية، لكنه دمج في قصة المعطف بين العناصر الواقعية والعناصر السيريالية غير الواقعية الخارقة للعادة (لا سيما في خاتمتها) وقد أثرت هذه القصة برمزيتها واستعاراتها ومتانة حبكها في الكتاب الروسيين والغربيين الذين جاؤوا بعده، إذ تعتبر تحفة فنية تنتمي إلى الأدب الخالد الذي يصلح لكل زمان ومكان.
تدور أحداث قصتنا هاته في مدينة “الليالي البيضاء” سانت بطرسبورغ، حيث يصور لنا من خلالها الكاتب نيكولاي غوغول حياة الموظف البسيط أكاكي أكاكييفتش، المسحوق ماديا واجتماعيا، تارة بين الأنظمة البيروقراطية، وتارة أخرى بين نظرات الناس وسخريتهم التي لاتنتهي. هذة المضايقات التي لم يكن ليجيب عنها أكاكي، إلا حين بلوغ أقصى درجاتها، ليرد بعبارته البئيسة على المحتقرين له “دعني وشأني، لماذا يحلو لك تعذيبي”.

حدثت هذه الوقائع حين اجتاحت سانت بيطرسبورغ، موجة صقيع قاسية اهترئ معها معطف أكاكي المرقع من كل الاتجاهات والجوانب، وقد حاول ترقيعه مرة أخرى غير أنه لم يكن بوسع الخياط ايجاد بقعة ليغرس فيها إبرته، حينها فقط سيقتنع أكاكي أن عليه اقتناء معطف جديد، عبر سلسلة من التقشفات أدت به إلى التخلي عن معظم حاجياته الضرورية لشهور عدة، ليصبح أخيرا معطفه جاهزا، يلبسه بكل تفاخر وهو ينظر إليه ويتحسسه في كل مرة بيديه مطمئنا ما إن كان لايزال فوق كتفه.

ولأن الرياح عادة ما تجري عكس السفن، ولأنه يحصل أن لا تبتسم الأقدار السعيدة طويلا لصاحبها، لم تمر بضع سويعات حتى جرد بطلنا هذا وقت سيره بالمدينة المثلجة من معطفه من قبل أيادي آدمية خبيثة تمتد لتطال أغراض الناس. لم يكن أكاكي بجسده النحيل ليقاوم سرقة معطفه، كما أن استغاثته برجال الأمن وجدت آذان صماء عمقت من شعوره بالوحدانية والدونية، وبعدم اهتمام الآخرين به كأنه حشرة أو قشة تتقاذفها الأقدام في أزقة سانت بطرسبورغ دون أن تتحسس وجودها، ليسقط أكاكي طريح الفراش وتلامس روحه السماء بعد أيام قليلة.

هكذا اختفى وإلى الأبد كائن بشري لم يفكر في حمايته أحد على الإطلاق… واستأنفت الحياة في سان بيطرسبورغ من دون أكاكي وكأنه لم يكن موجودا أصلا.

بهاته الجمل ودع الكاتب بطله، غير أن نهاية الرواية حملت معها رجوع روح أكاكي للمدينة كبشارة للأخذ بالثأر، وهذا هو جوهر الثورة التي اندلعت بروسيا خلال القرن اللاحق، إذ انبعثت الأرواح الآدمية من تحت الركام بعد أن كانت ترزح لقرون تحت نيران التسلط القيصري بمباركات الكنيسة الأرثودوكسية، وتحت ظلم البرجوازية التي جرت في فلكها!

استمع مؤخرا من قبل

1 تعليقات
  • YouCeF

    واحدة من الروائع الخالدة

     
    1701188854
    640

:: / ::
::
/ ::

طابور